ألقاها في منزل شربل بعيني يوم تكريم السفير لطيف أبو الحسن
والمطران يوسف مرعي
مروا على عطش الابواب وارتجلوا
نهراً وعاصفةً بالارض تنتقلُ
في دمعة القمح قد نامت بيادرنا
وبيدر الحزن في اعماقنا جبلُ
مروا، سيولد لبنان بأحرفكم
ويفضح الشعر ما قالوا وما فعلوا
للأرض قولوا: اذا تنهار دولتنا
فليس تبقى على ارجائها دولُ
ان الصغير اذا لانت ملامسه
ففي اظفاره البركان يشتعل
ومن يكون بباب الغيم ملعبه
يظل يركع في ابوابه الاجل
اغمضت عيني على لبنان لا فزعاً
اكن يوماً، ولا باليأس انشغل
فانتم الرعد والنار التي انبلجت
من البراكين لما انجب الازل
وانتم البحر لا تغفو سواحله
وعنده السحب البيضاء تغتسل
اقول شعراً: انا طفل بساحتكم
وفوق اعينكم كالظل ارتحل
الملم الزهر عن اثوابكم خجلاً
حتى يزهّر فيَّ الشعر والزجل
من لي بأهلي؟ وانتم اهل موهبتي
من لي بحرف اليه الشمس تبتهل؟
تصيّد الفجر بالأقلام شاعركم
ففي الشقائق من شريانه قبلُ
ولوّن الحقل عصفوراً وأطلقه
حتّى استفاق على أنغامه الرسلُ
هذا الأبيّ الّذي يمناه جدوله
هذا النبيّ الذي أقواله عملُ
يا شاعر الغربة السوداء من حجر (1)
خلقت سحراً، وفاضت عندك الجملُ
اعطيك خبزاً اذا اعطيتني رجلاً
فيه المكارم والاخلاق والمثل
فداك نحن إذا نابتك نائبة
فبالسيوف رجال الشعر تكتحل
تعبت ارفع اوجاعي على كتفي
وقد يموت على اوجاعه الرجل
قلبي هناك لدى عصفورة شردت
قلبي هناك مع الالاف يحتفل
يا لعبة الموت ما ادراك ما بلدي؟
غمامة عبرت بالشرق تنهمل
ربابة وقعت في كف عاشقة
فأثمر الوتر المحموم والغزل
لو يصلبون على المسمار جبهته
يعود منتصراً في قلبه الامل
لو حولوه متاريساً واعمدة
يظل يصبر من جرح ويحتمل
من قال مات؟ يصير النعش قنبلة
ومدفعاً بصراخ الدم ينجبل
سلوا السفير عن الايدي التي بذرت (2)
قمحاً بنهر من الاجساد يتصل
سلوا السفير.. ففي اعماقه خبر
عن الذين على اعتابهم قتلوا
يا صاحب الامر لو كلفت معصية
فقل بربك ماذا تفعل الملل؟
ألست انت تحب الله مرتضياً
وبالمسيح لديك الفخر والمثل؟
أليس احمد او عيسى على غضب
وكل رب على اقوامنا هبل؟
اذا نريد لديك الصدق نعرفه
صدق البطولة إذ لا يكذب البطل
فلو تمثّل فيك الناس لارتعدت
كفّ الاذى وتلاشى الحقد والدجل
فالقول عندك اسياف مرصعة
والحلم بالادب المرموق مكتمل
واللطف والحسن لو مرّرت ظلهم
على الكواكب طاش البدر والزحل
في ليلة الشعر بعت النهر اغنيتي
وجئت اسأل عمن في الحمى نزلوا
من يوسف الحسن؟ هذا الطهر موسمه (3)
وكل مكرمة في الكون يشتمل
لو مرت الشمس في ابوابه ركعت
تولّهاً وبدا في وجهها الخجل
يعرج الورد.. يغفو عند عتبته
وتسجد الكتب البيضاء والمقل
يا صاحب الدار لو قصّرت يعذرني
اني تضيق على افكاري السبل
فأنتم الشعر، من برق هياكله
وكل حاسدة للبرق تنخذل
ماذا يقولون؟ هذا خبز دمعتنا
وملحنا بعروق الدم ينفعل
هذا هو الشعر بالزلزال نكتبه
لأمره الغيم والأنسام تمتثل
يمر في مدن سود فيهدمها
لكي يخبّر عن اصحابه الطلل
هذا هو شعرنا.. من ليس يعجبه
فألف شكر إذا يرضى ويعتزل
1ـ شربل بعيني
2ـ السفير لطيف ابو الحسن
3ـ المطران يوسف مرعي
صوت المغترب، العدد 1077، 1990
**
الطربوش عمل مسرحي ثالث
على مسرح مدرسة سيدة لبنان
أدى حوالي 600 طالب وطالبة من مدرسة سيدة لبنان الابتدائية النص المسرحي الذي وضعه الشاعر شربل بعيني وذلك في خلال ساعتين من الزمن.
والامور التي لفتت النظر فعلا بساطة المسرح والديكور والاضاءة وبراءة الاطفال الذين تنادوا لاسقاط الطربوش رمز الظلم والاستبداد والطغيان العشائري.
والواقع ان المسرحية التي اخرجها ايضا الشاعر شربل بعيني، استطاعت ان تعبر عن فكرته القديمة المتجددة التي كونها عن الواقع السياسي الرتيب في وطن دفع غاليا ثمن لعبة الطرابيش والكراسي والمؤامرات.
وإذا كان شربل بعيني قد وجد نفسه مقيّداً في أمور كثيرة، منها اضطراره لإظهار 600 طفل في مسرحيّة واحدة، مما يعني اضطراره أيضاً لمراعاة قدرة الأطفال على الحفظ والأداء.. فإنه في الوقت نفسه استطاع أن يقدّم عملاً جيّداً، وفي أحيان كثيرة تمكّن من اختراق السقف الذي حددته له قدرة هؤلاء الشبّان، كما في المقطع الذي دار بين "البصّار" والفتاة التي تبحث عن عريس.
ولعل ما شدني للمسرحية فهم البعيني للاسطورة الشعبية في مشاهد عدة، ربما عن قصد أو غير قصد، وعودته للاصول الشرقية التراثية، أي الاصالة التي ستقتحم الفن من جديد، وتحطّم الاصول الجديدة الفارغة.
حضر المسرحية حوالي الالف مشاهد من آباء أجلاء وراهبات فاضلات ورجال فكر وادب وصحافة وغيرهم.
وقد غنت الطفلة ريما الياس في المسرحية اغنيتين جديدتين: يا حمام، من الحان ادغار بازرجي، وأمي، للملحن مجدي بولس. ومما يذكر ان الاخت مادلين ابو رجيلي قد ساعدت على تنظيم مسرحية "الطربوش" التي خرج منها الجمهور مشاركاً الصغار براءتهم، ومنتقلاً الى عالم الثورة على رموز الجهل والموت.
صوت المغترب، العدد 1060، 21/12/1989
**
شربل بعيني يتحدى الارهاب
زمن الارهاب يدخل في القمقم..
زمن الارهاب الذي حبلت فيه رجعية الانظمة، وتوحمت فيه امرأة هولاكو، وافرزته الدساتير المزيفة، وهرطقة رجال البلاط، تلاشى واختنق صداه.
لم يعد للجلاد كلام مباح. احترقت اصابعه بعد ان عاش فساداً وقبحاً، وذبح على مائدة عشيقته شعراء المستقبل ورسل الحقيقة وانبياء الجماهير.
افلت صوته كالافعى على الكلمة والكلمة سيف وقضية.
نزلت لعنته على جسد المحبة، فانطفأت غبارا وتلاشت سراباً، ونبت في الجسد المجروح نهر القيامة.
وبقي ان الشعر صراخ الموقف والحق والعقيدة، وبقي الشاعر هو الوطن من المحيط الى الخليج، وهو العالم من القطب الة القطب، وهو الحبيبة من الشفة الى الشفة.
الشاعر هو الاتي في عهد سدوم، الراجع على رماح الذين آمنوا به وتبعوه الى الجلجلة، والقائد الواعي الذي فهمته الملايين وامنت بوقع خطاه.
اقتلوا الشاعر يخرج من تابوته قنبلة.
اجرحوا الشاعر ينفلت الضوء مساحة اكبر من مساحة الارض، واوسع من مدى السموات السبع.
الشاعر حقيقة لا يستطيع طمسها حقد الكتبة والفريسيين.
وشربل العائد بصوته عازفاً ماهراً على أوتار الحب المتأرجح على خيط يمتد من عيني حبيبته الى مضارب النجوم.
شربل بعيني الذي أحب ومات وقام وانسحب على المرارة دهراً لا ينتهي.. هو الوعد بالبقاء والإشارة الرافضة لكل الدساتير الملعونة والمتمرّدة على سلالة الأسود العنسي.
شربل بعيني لحظة الوصول حين يقف جلجامش خائفاً من المغامرة.
إنه الإنفلات من دائرة القهر حين يكثر المستزلمون والزاحفون إلى مائدة بيلاطس..
وأن يثور شربل على الظلامية والإرهاب ويطبع كتاباً، تحدٍ وإعلان للقيامة واقتحام جديد للمستقبل.
أن يمرّ شربل بعيني في موّال الكتابة دعوة إلى البقاء حين يريد أحفاد هولاكو أن ينسفوا جسور الحريّة، ويلغموا الشمس بالحقد الأسود.
مبارك الآتي باسم شربل بعيني.. ومباركة ثـمرة شربل بعيني معزوفة حب ومبارك الشعر".
صوت المغترب، العدد 1056، 22 تشرين الثاني 1989
**
جولة في شعر شربل بعيني
من أجمل المصادفات أن تلتقي شاعراً، تحسّه بعضاً منك، أو تحسّك بعضاً منه، وترى في كلماته شيئاً من فكرك، واغتقادك وثورتك، فتروح تقلب صفحاته في شغف، كأنك تبحث عن شيء ضاع منك، فتنسى أن ما تقرأ ليس لك، ولكنك لسبب تجهله ظنتته لك، ونسبته إليك، واتهمت صاحبه بأنه أخذه من دفترك، في ساعة طمع وتعدٍ.
هذه حكايتي مع شاعر، لم أعرفه من قبل، صعقت عندما قرأت له:
لم نعد نرضى بأن تزغرد الأعراس في قصورهم،
وتنتحب في حيّنا المآتم..
لم نعد نرضى بأن يعيشوا رغدهم،
والشعب، كل الشعب، باللقمة حالم
لم نعد نرضى بأن نضمّد الجراح
أو نبتلع المظالم.
وهرعت إلى أوراقي التي حملتها معي من لبنان، لأقرأ:
قلبي على بائسة،
باعت مناديلاً بخبز
في الليالي العاتيه
كوم القمامة أزهرت
عند السلاطين،
وأصحاب الملايين..
وآلاف تصلي راضيه..
وقرأت لشربل أيضاً:
آتٍ إليكم من ليالي الجوع والفقراء..
من شوادر بؤسهم،
من حزنهم،
من كلّ أنات العناء..
ثم قرأت لي:
أنا حبة رمل، ترتمي في باديه
أنا من عصف الهواء
في شبابيك البيوت النائيه
ريشتي من ثوب فلاح،
وحبري وردة عند المساء
نثرت أوراقها في ساقيه..
وفي اعتقادي، أن هذا الإحساس المشترك بين شاعرين، مردّه إلى معركة النضال الواحدة من أجل الانسان وحريته وكرامته، فالشاعر الانساني واحد في كل زمان ومكان، وليس للحدود والأبعاد قدرة على تغريب الشاعر عن رفاقه الذين يغردون في سرب آخر.
أجل ان شربل بعيني شاعر إنساني صادق، تتفلّت الكلمات منه كالمطارق، تدك عروش الظلم والاستبداد، وتبشر بولادة جديدة، بعد طول انتظار:
صوت البلاد صرختي
وسع المطارح قبضتي
فأين، أين المهربُ؟
والواضح أن شاعرنا يخرج على النظام الموسيقي الذي يحكم القصيدة، لتتاح له، أكثر فأكثر، حرية التعبير، والانفعال النفسي، فيروح يخرج من ذاته، محطماً الحواجز والسدود، وكاشفاً عن الحقائق والاحاسيس، دون خوف أو مواربة:
أنا الذي قوّضت بالشعر
رموز الحقد والضغينه
وطردت الفتنة من كل أرجاء المدينه
وبالثورة نفسها، يتكلّم صديقنا الشاعر على من تآمروا على الوطن الحزين:
قسّموها..
قسّموا أرضي مزارع
ملأوها بالخفافيش
وأصناف الضفادع..
وهو لا يتهيّب الموقف عندما يهدد هؤلاء:
الثأر بيني وبينكم
الثأر بيني وبينكم
يا من ذبحتم أرضنا
بشقاقكم..
وبهذا، تبرز مقدرته على التحدي، والوقوف بجرأة، في وجه من يتهمهم بالتآمر على الوطن، وذبحه، وتقسيمه..
إن شربل بعيني يتناول مشكلة الوطن الصغير بصدق وحماس، ولكنه لا ينسى مأساة الوطن الكبير، فتذكرنا قصيدته "صدقيني يا بهيسة" بشعر نزار قبّاني في أعماله السياسية. يقول شربل:
أخدارنا مباحة
والويل للنساء
أوطاننا مسبية بعنادنا،
ونجومنا مطليّة بسوادنا..
حتى السماء عندنا ليست سماء..
وكذلك يظهر اللون القبّاني في قصيدة "اسمعوني جيّداً":
قل لنا.. إياك أن تكذب كذبه
كم قبضت ثمن الشعر
وهل في الأمر لعبه؟
ويحمّل شاعرنا اللهجة المحكيّة زخماً فنياً، لا تقوى على حمله إلا اللغة الفصحى، فهو يترك الزجل التقليدي، ليطرق باب الشعر العامي الرقيق، فبعد كتاب "مراهقة" الذي يتناول فيه الشهوة الجسدية، بمعزل عن إبداع فني بارز، و"رباعيات" الذي يبحث في شؤون الحياة، بحكمة وواقعية، يطلّ "الغربة الطويلة"، ومن روائعه قصيدتان: "تراب عم يمشي" و"جزمة أللـه".. ثم يأتي "مجانين"، وهو شعر وطني الطابع، ومن أجمل قصائده "آخرتها شو؟":
وآخرتها شو؟
وبعدنا بلبنان
مننحني لفلان
ومنألّه فليتان
وندور بمدارو..
الانسان أللـه أوجدو إنسان
تا يرفع شعارو
ويمجّدو هوّي..
أما في "أللـه ونقطة زيت" فيستند البعيني إلى آيات قرآنية وإنجيلية، ليتحوّل مبشراً دينياً، له فهمه الخاص للدين، فهو يفهمه بعيداً عن المظاهر، والكذب، والخداع، ويفلسفه طارحاً الأسئلة الوجوديّة، التي حيّرت الانسان في تاريخه الطويل:
والإنسان الضايع حقّو
بدنيي قوانينا ماليِه
استحلى رغيف محمّر.. سرقو
هيدي رح تحسبها خْطِيِّه؟
وبهذا، يبدو شربل بعيني شاعراً مُجيداً، متعدد الموضوعات والأساليب، يبرز الصورة الفنيّة بطلاقة، معتمداً الفصحى طوراً، والعامية أطواراً، إذ لا أهمية للغة عنده بمعزل عن الموضوع، فالموضوع هو الأساس الذي تبنى عليه هيكلية القصيدة، ولا نقاش بعد ذلك في مسألة اللغة. وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن شربل بعيني متفوّق في شعره الانساني، هذا الشعر الذي يقف مارداً في وجه الطغيان، ليدفع الظلم والفقر والعذاب عن المساكين والتعساء في الأرض، والذي يستمد مادته من اصول دينية سماوية سمحاء، توصي بالعدل والرحمة، وتحضّ على المحبّة والصدق والتآخي.
إن هذا الشعر الانساني العميق، الذي يغوص في قضية الانسان ومصيره، لا يمكن عزله عن مسيرة الشعر الانضوائي الملتزم، الذي رأيناه عند كبار الشعراء أمثال بابلو نيرودا، وبدر شاكر السيّاب.
على أنني لا أخفي بعض التحفظات حيال شعر شربل بعيني، وأهمها: التسرّع والانفعال في سبك الألفاظ مما ينتج عنه وجود ألفاظ لا تناسب المعنى، ففي قوله مثلاً:
إسمعوني جيّداً
يا سادتي المحققين
بعت أشعاري.. ولكن
لأناس يحرثون الأرض
يجنون المواسمَ
ضاحكين قانعين..
نجد أن لفظة "ضاحكين" لا تناسب الحبكة الدرامية، أو الموقف المأساوي الذي ينطوي عليه كامل المقطع، وكان يمكن حذف هذه اللفظة دون تغيير النغم وإضعاف المعنى.
وفي قصيدة "فيروز كوني أمنا" يقول:
لنسكن التاريخ..
نبني قلبه الحنون..
فكلمة "نبني" لا تناسب القلب، وكلمة "الحنون" ليست صفة جيّدة للتاريخ، أو هكذا يتراءى لي.
وقد ينتج الخلل اللغوي عن التسرّع، لنقرأ معاً:
طالما أن يدينا
تحرس وكر الزعامة..
فكلمة "يدينا" مثنى، والفعل "يحرس" لم يثنَّ، وفي هذا مخالفة لأصول اللغة ولصحة التركيب.
وفي المقطع:
وتناتشنا الغنائم والمراكز والمقام
مثل كلب أسكتوه بالعظام
يظن السامع أن المقام هو الكلب، لأن الكلمتين مفردتان، ويستحب تشبيه المفرد بمفرد، ومن غير المنطقي تشبيه الناس الذين يتناتشون الغنائم والمراكز بالكلب، بل بالكلاب، وخصوصاً أن الفعل "تناتش" يدل إلى مشاركة بين أكثر من واحد في عمل معيّن.. وكان يمكن القول:
وتناتشنا الغنائم والمراكز والمقام
ككلاب أسكتوها بالعظام
أما الملاحظة المهمة الثانية فهي شيوع النظم، وشعر المناسبات، كفصيدة "مجدليا" و"رأس مسقا" و"أعظم سفير".. وهذه الكتابات كان يمكن تجاوزها عند الطباعة، لأنها تنطوي على قيم إنسانية شاملة، إلا أنها تعبّر عما يخالج الشاعر من أحاسيس شخصية تحاه موضوع معيّن. ولا يخفى ما لمثل هذه الأنماط الشعريّة من تأثير على آراء النقّاد فيما بعد، وقد كانت قصائد شوقي في هذا الاطار سبباً مباسراً لاتهامه بالفردية من قبل بعض الدارسين لشعره.
وكنت أتمنى لو يتاح لي الوقت لدراسة مجمل نتاج شربل بعيني، لما ينطوي عليه من مسائل أخلاقية ودينية وإنسانية، ولا يسعني إلا أن أختصر هذا الشاعر بكلمات قليلة، فأقول:
"إنه إنسان كبير".
صدى لبنان، العدد 634، 21/2/1989
**
إعتذار
ورد في مقال لنا تحت عنوان "جولة في شعر شربل بعيني" كتاب "شربل بعيني بأقلامهم 5" ص 89 ـ 102 ما يلي:
"وقد ينتج الخلل اللغوي عن التسرّع، لنقرأ معاً:
طالما أن يدينا
تحرس وكر الزعامة..
فكلمة "يدينا" مثنى، والفعل "يحرس" لم يثنَّ، وفي هذا مخالفة لأصول اللغة ولصحة التركيب".
والواقع أنه يجوز استعمال الفعل بصيغته الإفرادية مع مثل هذا النوع من المثنى.
جاء في شرح الكافية لمحمد بن حسن الرضي، الجزء الثاني، ص 164 ـ 165: "وقد يقع المفرد موقع المثنى في ما يصطحبان ولا يفترقان كالرجلين والعينين. تقول: عيني لا تنام أي عيناي، وقريب منه قوله: وعيناي في روض من الحسن ترتع".
على انني إنصافاً للحقيقة أقول: إنني لم أعثر على مثل هذا المثنى، وفي مثل هذه الحال مضافاً إلى ضمير الجماعة.. فاقتضى التنويه والاعتذار.
أخوكم المخلص
جميل الدويهي
صوت المغترب، العدد 1071، 29/3/1990
**
أحباب شربل بعيني: الحب هو الشعر
البحث عن إنسان جديد ليس شمولياً
والذاتية مردّها الغربة
أكاد أقول: عندما أوجد الله الحب في الأرض، خلقه على وزن شربل بعيني ومثاله. فأنت في أن تحب الشاعر أو تكرهه، ولكنك لست حراً في أن ترفض الحب الذي يبادلك به.
أليس الحب هو الشعر؟
أو ليس الشاعر هو القدوة التي تسيّر الجماهير؟
وما العظمة إذا كنت تشبه الناس في تفكيرهم وأحاسيسهم وسلوكهم اليومي؟
شربل بعيني هو هو، يخرج بكتاب جديد فيه من كلاسيكية اللغة وبساطة الكلمة واللحن الغنائي الشيء الكثير. ولكنه كتاب منضد بسواد العينين، وملوّن بدموع التجربة والرؤيا الانسانية التي لا تغيب أبداً عن مسرح الشعر.
في "أحباب" لا يعود شربل بعيني بطلاً يلوّح بالسيف ولا فاتحاً لمدرسة جديدة. فالكتاب بمجمله مجموعة قصائد ألقيت في مناسبات ثقافية أو اجتماعية أو فنية، لكن لكل قصيدة في العالم مناسبة. فالزمن مناسبة. وطالما أنت في الزمن فإنك لا تخرج من حدود اللحظة التي يشتعل فيها الفكر، وينجب خلقاً سوياً قد لا يتأتى له أن ينجبه في لحظة أخرى.
ومهما يكن من أمر، فإن شربل بعيني هنا، ليس شاعراً زجلياً، رغم أن لا تهويميّة، ولا غموض أو رموز مغلقة في شعره، بل "مباشرة" قريبة إلى القلب والفكر تكتنفها أحياناً صور قادرة على تخييل المتلقي وتحريكه من الداخل.
وشربل يدرك ويقر أن تعريف المطربين ليس شعراً، بقدر ما هو نظم يستهدف المديح والإطراء والترويج الدعائي. وأنا أرجو أن يسلّم شربل معي، وهو سيفعل، أن قصيدة "ردولي إبني من الموت" المحلّقة الهادرة موضوعاً وحواراً وصورة، قادرة على تشكيل سقف إبداعي أعلى وأمتن.
ويبدو أن لشربل شيئاً من قديمه في الكتاب، وهو قديم جديد. فالقصيدتان "دمع" و"حكاية بطل" هما من قصائد شربل الجيّدة. وأريد أن ألفت نظر شربل هنا إلى أن هذا اللون المتواتر من السبعينات ليس "محرماً دولياً"، بل ان فيه من اللهب الإبداعي أكثر مما يظن الكثيرون. وإنني لا أنكر أن هم الشاعر اللبناني أو الوطني ظاهر في مجمل الكتاب، فشربل صاحب عقيدة لا يحسن لديه الانفلات منها، ونظرته الى الوطن والزعامات لا تزال مرهفة وحادة، فهو المسؤول الأبرز عن الحقيقة يصرخ بها دائماً:
باعوا الوطن بالدّيْن
شو ذنبنا نحنا
نشف الدمع بالعين
وعن جنتو نزحنا
صار الحكم حكميْنا
وصفّى غراب البَيْن
يشقلب مطارحنا
والصرخة تتكرر في مكان آخر:
تركني تركني قُولْ
رح ينفجر راسي
بلاقي الشعب مسطول
بيألِّه كْراسي
بأوطان مش مسموح
تربّي بحضنا زغار
نامت ع صدرا جروح
وفاقت بيقلبا نار
وفي وسط المشكلة يبحث شربل عن إنسان جديد، على أن بحثه هذا ليس شمولياً، بمعنى أنه لم يخصص قصائده لدعوة أو لقضية ما، بل جعل الدعوة تبرز من خلال شذرات تلمع حيناً، وتختفي حيناً آخر، ليحل محلها إطراء أو ثناء لشخصية معيّنة، وهذا هو دأب شعر المناسبات قي غالبه.
ولا تخبو في الكتاب ذاتية مردّها إلى تأثّر شربل العميق بغربة فرضت عليه، وأكلت خبز أيامه ولياليه. ففي قصيدة "البيّاتي.. الحلم الراجع"، يتحدّث عن غربته بآلامها ونارها وجنونها:
يللي هجرت الدار
متلك أنا بغربه
بسافر بهالأشعار
ع جوانح الكذبه
ومعليش لولا كذبت
ما نسيت كيف هربت
والخوف بيدربي
وبكم كلمه كتبت
قلّلت من خوفي
وروّضت منفى.. تعبت
وبعدني منفي
أعني أن هذا الاحساس بالغربة هو إحساس عام، جماهيري أكثر منه فردي، دائم الحضور، ومقلق في أبعد المدى.
وأظن شربل لا يقصد كتابة الشعر بقدر ما يكتب أحاسيسه، ولذلك تتسود شعره التلميحات والدعوات المتفرقة والعظات المتناثرة التي يثبها كما خلقت، ولا يفرد لها قصائد مختصة بذاتها.
وفي لفتة إلى مديحه يخترق شربل المقولة: إن المديح غرض قديم، فالمحبة جديدة بتجدد صاحبها، ومن يكتب المحبة بنياط قلبه يفعل أمراً جديداً في عصر أصبحت فيه المحبة ذكراً من أقاصيص الأطفال، وحلماً يتدثر به النائمون.
إنه مدح جلل، يخاطب أعلى القوم لا سافلهم، مدح صادق مرهف لا يتقنّع ولا يغالي أو يوارب. وفي أي احتمال يبقى أن للشاعر الحق أن يردّ يوماً فضلاً لأصحابه، ويعترف بجميل من أحسنوا إليه، وسددوا خطاه، غير أنني لا أزال أعتقد أن لشربل القدرة على عمل أفضل من "أحباب"، أو لنقل عمل مواز لقصيدة "ردّولي إبني من الموت"، وهذا اعتقاد شخصي أردت أن أظهره، فإذا كان صائباً أفاد شربل، ,غذا كان مخطئاً أفادني. والله الموفق.
صوت المغترب، العدد 1079، 17/5/1990
**